المادية التاريخية ورؤية المستقبل - 5

30 تشرين2/نوفمبر -0001, 12:00 am كتبه 
نشر في مقالات
قراءة 526 مرات

الاقتصاد والأفكار
"اوضح ماركس في كتابه "الثامن عشر من برومير للويس بونابرت" بالتفصيل كيف نشأت الافكار والمؤسسات الخاصة والاحزاب السياسية والمنازعات السياسية واتجاهات الافكار على اساس العلاقات الاقتصادية والطبقية المحددة في المجتمع الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر، وكيف أثر الصراع الناشئ عن ذلك في مملكة السياسة والايديولوجية على مصير مختلف الطبقات وعلى الاقتصاد الفرنسي بأسره، ولهذا الفهم المفصل للعوامل السياسية والايديولوجية واساسها وتأثيرها بالطبع اهمية حيوية في التحليل الذي نقوم به للوضع الراهن بهدف تخطيط سياستنا العملية"

2. يدخل الناس في علاقات الانتاج وبذا يرتبطون في تنظيم اقتصادي في استقلال عن أي قرار واع وانما في توافق مع طبيعة قواهم الانتاجية وبعبارة أخرى فان الناس الذين يعتمدون في معيشتهم على تقنيات انتاجية معينة ينشئون علاقات ملكية – وفي النهاية علاقات طبقية – ملائمة لهذه التقنيات وعلى سبيل المثال: ستعيش قبيلة صيد بدائية الحياة الاجتماعية للشيوعية البدائية، وحين تستأنس الحيوانات ستتجه القطعان إلى ان تكون ملكية عائلات معينة داخل الجماعة، وحين استخدمت الآلات التي تعمل بالطاقة للمرة الاولى فقد كان ذلك باعتبارها مملوكة للرأسماليين الذين يستخدمون العمل المأجور وهكذا.
3. وعندئذ ستنشأ مؤسسات اجتماعية – ومعها نظم سائدة من الافكار – تتوافق مع التركيب الاقتصادي للمجتمع وسيكون من شأنها ان تخدم سير اسلوب الانتاج السائد، وعلى سبيل المثال: لا يكاد يمكن لقبيلة بدائية ان يكون لها جمعية تشريعية او جيش دائم او قوى بوليسية او جامعات، ومن الناحية الاخرى فان مثل هذه المؤسسات لازمة لاستمرار المجتمع الرأسمالي الحديث ولا تنشأ مثل هذه المؤسسات وما يتجاوب معها من ايديولوجيات الا حين يوجد اساس اقتصادي معين.
وتكون هذه القضايا الثلاث مفتاح تفسير كيفية سير التطور الاجتماعي وكيف تنشأ وتتغير مختلف السمات التاريخية للمجتمع ففي توافق مع قوى انتاجية معينة تظهر إلى الوجود علاقات انتاجية معينة وفي اطار هذه العلاقات الانتاجية تتطور في النهاية قوى انتاجية جديدة، وعندئذ ينشأ وضع تبدأ فيه علاقات الانتاج القديمة تشكل على حد تعبير ماركس – "قيودا" امام مزيد من تطور الانتاج، ويكون من الضروري حينئذ ان تتغير علاقات الانتاج ويتغير معها كل "التركيب العلوي" من الافكار والمؤسسات، وهكذا فان المادية التاريخية الجدلية تفترض قانونا للتبعية المتبادلة بين الانتاج وعلاقات الانتاج والتركيب العلوي الاجتماعي من المؤسسات والافكار. لكن في نفس الوقت علينا ان نؤكد "بان الاقتصاد لا يخلق شيئا جديدا كلية" لكنه يحدد الطريقة التي تتغير بها مادة الفكر القائمة وتزداد تطورا" (ف. انجلز: رسالة إلى س شميدت في 27 اكتوبر 1890).

وهكذا فان الامر ذا الاهمية الاساسية في تطور الافكار والمؤسسات هو انها ليس لها تطور مستقل وانما تخلق على اساس الاقتصاد المعين وتظل هناك دائما مشكلة تفسير خصائص تطور الافكار والمؤسسات في كل بلد معين واي دور تلعبه في كل فترة بعينها من تاريخه، ولا يمكن ان تحل هذه المشكلة بالصيغ العامة وحدها وانما فحسب على ضوء الوقائع ذاتها. فعلى سبيل المثال اوضح ماركس في كتابه "الثامن عشر من برومير للويس بونابرت" بالتفصيل كيف نشأت الافكار والمؤسسات الخاصة والاحزاب السياسية والمنازعات السياسية واتجاهات الافكار على اساس العلاقات الاقتصادية والطبقية المحددة في المجتمع الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر، وكيف أثر الصراع الناشئ عن ذلك في مملكة السياسة والايديولوجية على مصير مختلف الطبقات وعلى الاقتصاد الفرنسي بأسره، ولهذا الفهم المفصل للعوامل السياسية والايديولوجية واساسها وتأثيرها بالطبع اهمية حيوية في التحليل الذي نقوم به للوضع الراهن بهدف تخطيط سياستنا العملية، نحن لا نستطيع التوصل الى سياسة لحركة الطبقة العاملة في وضع معين من مجرد تحليل الوضع الاقتصادي مهما كان دقيقا ومن الضروري ان نضع في اعتبارنا كل العوامل السياسية القائمة في تعقدها وكذلك مختلف اتجاهات الافكار وان نفهم كيف هذه العوامل ليست فحسب انعكاسا للوضع الاقتصادي بل هي تؤثر عليه حتى يمكن ان نصل إلى سياسة محددة. لأن العمل السياسي وكذلك الصراع الايديولوجي عموما – في ظروف اقتصادية معينة – له تأثير حاسم على المسار اللاحق للتطور الاقتصادي، ومصير مختلف الطبقات وللاقتصاد بأسره.

كتب انجلز في كتابه "ضد دوهرنج" يقول: "ان السلطة السياسية، اية سلطة، تستند في البداية إلى وظيفة اقتصادية واجتماعية ما وتزداد بقدر تحول افراد المجتمع بنتيجة تحلل المشاعات البدائية إلى منتجين خاصين، وبالتالي تزداد الغربة بينهم وبين حملة الوظائف الاجتماعية العامة، هذا اولا، وثانيا بعد ان غدت السلطة السياسية مستقلة عن المجتمع وتحولت من خادمة له إلى سيدة صار بامكانها ان تعمل باتجاه مزدوج، فإما ان تفعل بروح وباتجاه التطور الاقتصادي الحتمي وعند ذاك لا يظهر أي خلاف بينها وبين هذا التطور الذي تسارع في هذه الحالة، وإما ان تفعل السلطة السياسية خلافا لهذا التطور، وعند ذاك ترضخ عادة لضغط التطور الاقتصادي باستثناء حالات قليلة. وهذه الحالات الاستثنائية القليلة هي حالات الغزو الوحيدة التي اباد فيها الغزاة الاقل تحضرا او طردوا سكان البلد المحتل وأبادوا قواه المنتجة او جعلوها تموت بسبب عدم اجادتهم استخدامها، هذا ما فعله المسيحيون مثلا في الاندلس، للقسم الاكبر من مشاريع الري التي بناها العرب وأمنت لهم حقول القمح والبساتين الزاهرة، وفي كل مرة يكون فيها الغازي شعبا اقل حضارة يجري بالطبع اخلال بسير التطور الاقتصادي وتتعرض القوى المنتجة الواسعة للتلف، الا ان الغازي الاقل تحضرا يضطر خلال الغزو الطويل الأمد إلى التكيف في الغالبية الهائلة من الحالات إلى "الوضع الاقتصادي" الارقى في البلد المحتل بالشكل الذي هو عليه بعد الاحتلال. فالغازي يذوب في الشعب المغلوب ويضطر في اغلب الاحوال إلى استيعاب حتى لغته، وإذا تركنا جانبا حالات الغزو نجد انه عندما تدخل سلطة الدولة الداخلية لبلد ما في تناحر مع تطوره الاقتصادي كما حدث حتى الآن على درجة معينة من التطور لكل سلطة سياسية تقريبا، فان الصراع ينتهي هناك كل مرة بسقوط السلطة السياسية.

ان التطور الاقتصادي يشق طريقه بلا رحمة ودون ان يسمح بالاستثناءات وقد ذكرنا المثال الاخير الاكثر اثارة للدهشة بهذا الخصوص ونعني به الثورة الفرنسية الكبرى (المقصود الثورة البرجوازية الدمقراطية في فرنسا في اعوام 1789 – 1794) ولو كان "الوضع الاقتصادي" ومعه النظام الاقتصادي لبلد ما يتوقفان ببساطة، طبقا لتعاليم السيد دوهرنج على العنف السياسي لما كان بالامكان فهم السبب الذي جعل فريدريك ولهلم الرابع يخفق بعد عام 1848 بالرغم من "جيشه المغوار" (عبارة من رسالة فريدريك ولهلم (غليوم) الرابع إلى الجيش البروسي بمناسبة عيد رأس السنة 1/1/1849) في غرس نظام ورشات العصر الوسيط وغيرها من الغرائب الرومانسية في السكك الحديدية والآلات البخارية والصناعة الكبيرة التي بدأت تتطور في تلك الفترة بالذات في بلاده، ولا فهم السبب الذي جعل القيصر الروسي (الكسندر الثاني) الذي يعمل بوسائل عنف اشد بكثير عاجزا ليس فقط عن تسديد ديونه بل حتى عن الحفاظ على "عنقه" الا بالاقتراض المتواصل من "الوضع الاقتصادي" لاوروبا الغربية.

ان العنف بالنسبة للسيد دوهرنج شيء شرير بصورة مطلقة وكان اول عمل للعنف في رأيه هو خطيئة آدم، ان مذهبه كله يشتكي من كون هذه الخطيئة قد لوثت التاريخ حتى الآونة الراهنة ومن كون جميع قوانين الطبيعة والقوانين الاجتماعية مشوهة بشكل شائن من قبل اداة الشيطان – العنف، اما ان العنف يلعب في التاريخ دورا آخر ايضا، وهو دور ثوري وانه على حد تعبير ماركس قابلة لكل مجتمع قديم عندما ينمو في احشائه المجتمع الجديد. (ماركس رأس المال المجلد الاول. القسم الخامس الفصل 24 "ما يسمى بالتراكم الاولي). ص – 215. وأن العنف هو الاداة التي تشق الحركة الاجتماعية الطريق بواسطتها وتحطم الاشكال السياسية الميتة المتحجرة فذلك كله لا نجد عنه ولا كلمة واحدة لدى السيد دوهرنج". (انجلز – نظرية العنف – ضد دوهرنج – ص 213 – 215).

وخلافا لمثالية هيغل الجدلية والفكر المادي لدوهرنج تدرس المادية التاريخية الماركسية اهم قوانين التطور الاجتماعي وتقدم تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية، وهي تعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي واهمية الانتاج المادي في حياة الناس وأصل ودور الافكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها، كما تساعدنا المادية التاريخية في فهم دور الشعوب والافراد في التاريخ وكيف نشأت الطبقات وكيف ظهر كل من الصراع الطبقي والدولة، ولماذا تحدث الثورات الاجتماعية وما هي اهميتها بالنسبة للعملية التاريخية وعدد آخر من المسائل العامة لتطور المجتمع.
ان مفعول القوانين التي تدرسها المادية التاريخية لا يسري في نفس المجال الواحد فبعضها يفعل في جميع مراحل تطور المجتمع. من بين هذه القوانين مثلا القانون القائل بأن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي والقانون القائل بان اسلوب الانتاج هو الذي يحدد تطور المجتمع. ويفعل البعض الآخر من القوانين في مراحل معينة من تطور المجتمع فقط ومن هذه القوانين قانون الصراع الطبقي الذي يسري مفعوله فقط في المجتمعات المنقسمة إلى طبقات متعادية. ولدى دراسة المجتمع تصوغ المادية التاريخية ايضا المقولات او المفاهيم المناسبة التي تعكس اكثر جوانب التطور الاجتماعي عمومية وجوهرية، ومن هذه المقولات مثلا "الوجود الاجتماعي" "الوعي الاجتماعي"، "اسلوب الانتاج"، "البناء التحتي"، "البناء الفوقي"، "التقدم الاجتماعي" وكثير غيرها.

ان قوانين ومقولات المادية التاريخية بمجملها هي التي تعطي الصورة المتجانسة المكتملة عن التطور الاجتماعي، كتب ماركس يقول: "لا يمكن ان يزول تشكل اجتماعي قبل تطور جميع القوى المنتجة التي يمكن ان يشتمل عليها ولا تنشأ شروط انتاج عليا قبل تفتح امكانيات وجودها المادية وسط المجتمع القديم" (اسهام في نقد الاقتصاد السياسي 1859) وهذا لا يعني تهميش دور البشر بما هم من وعي وفعل، فالبناء الفوقي للمجتمع من وعي وفكر وفعل له علاقة جدلية مع الاساس الاقتصادي للمجتمع.

قيم الموضوع
(0 أصوات)
د. خليل اندراوس

الدكتور خليل اندراوس

الموقع : www.khalil-andrawes.com