تطور الانتاج هو أساس كل تطور المجتمع. والتركيبات الاقتصادية للانسان في المجتمع تأتيه منحة جاهزة من القدر، ومعدة لاستخدامه الى الأبد، وإنما هي تتطور إذ يغير الناس علاقاتهم بالطبيعة في الانتاج ومن ثم يغيرون علاقاتهم ببعضهم البعض.
يقول ماركس في مقدمة الطبعة الألمانية الأولى من "رأس المال" ان "وجهة نظري" تعتبر التكوينات الاقتصادية للمجتمع عملية من عمليات التاريخ الطبيعي". ان الفروق بين التكوينات الاقتصادية هي فروق علاقات الانتاج، وتحدد مختلف أنواع التكوين الاقتصادي والاجتماعي على ضوء مختلف انواع علاقات الانتاج ويعتمد الناس دائمًا في معيشتهم على وسائل انتاج محددة معينة. والعلاقات التي يقيمها الناس مع بعضهم والتي تحدد من يؤدي العمل الانتاجي، ومن يملك وسائل الانتاج، ومن يملك حقا ما على الناتج، هي علاقات الانتاج التي تحدد الفروق بين التكوينات الاقتصادية الاجتماعية التي تتابعت في مجرى التاريخ والمعيار الاساسي الذي يميز مختلف التكوينات الاقتصادية للمجتمع المنقسم طبقيا، هو أسلوب الاستغلال، او اسلوب انتزاع فائض العمل من المنتجين والمطالبة بناتج هذا العمل. وتحديد أسلوب الاستغلال يحدد في الوقت نفسه الملكية والعلاقات الطبقية في المجتمع.
وأيًا كان الأمر فان المحقق أن الرأسمالية لم تنشأ تاريخيا الا من التطور الاقتصادي داخل المجتمع الاقطاعي وحين تراكمت في المراكز التجارية مبالغ كبيرة من النقود، عن طريق نهب المناطق الأقل تطورًا والقرصنة والاستعمار والتجارة في العبيد، وما الى ذلك، وتوافرت كرأسمال في أيدي أفراد.
ومع الرأسمالية تنزع ملكية المنتج من كل وسائل الانتاج ولا يصبح قادرًا على العيش الا ببيع قوة عمله للرأسمالي مالك وسائل الانتاج، الذي ينتزع بذلك فائض العمل في شكل فائض القيمة او "عمل غير مدفوع".
فقيمة السلع التي تنتج في يوم عمل، تزيد عن قيمة قوة عمل العامل التي يبيعها للرأسمالي، وهذا الفارق هو فائض القيمة الذي يتملكه الرأسمالي، والذي يحققه نقدًا ولمصلحته حين يبيع البضائع المنتجة.
والتتابع التاريخي للتكوينات الاقتصادية – الاجتماعية هو تاريخ طبيعي، فعلاقات الانتاج تتكيف دائمًا مع قوى الانتاج، بحيث ان تلك العلاقات التي تنشأ في تكيف مع قوى انتاج أكثر تقدمًا، تمثل مرحلة تطور للتكوين الاقتصادي للمجتمع أرقى من تلك التي تتكيف مع قوى أقل تقدمًا. وتتقرر مرحلة التطور التي بلغها مجتمع ما موضوعيًا بمستوى قوى الانتاج، وبمدى ما يسمح به تركيبه الاقتصادي للناس من ان يحصلوا على أقصى طاقة من قوى الانتاج هذه.
يقول ماركس في فقرة شهيرة من مقدمة: "نقد الاقتصاد السياسي" – ما يلي: وتستطيع ان تشير في خطوط عامة الى أساليب الانتاج الأسيوية والقديمة والاقطاعية والبرجوازية الحديثة باعتبارها عصورًا متتابعة للتكوين الاقتصادي للمجتمع. وعلاقات الانتاج البرجوازية هي آخر شكل تناحري لعملية الانتاج الاجتماعية... فالقوى الانتاجية التي تتطور في رحم المجتمع البرجوازي تخلق الظروف المادية لحل هذا التناحر".
ومن هنا فان الرأسمالية الاحتكارية – شكل الرأسمالية الاحتكارية يتلخص في تلاحم الاحتكارات مع الدولة البرجوازية في آلية واحدة. وهذه الرأسمالية الاحتكارية تكمل نهائيا نزع ملكية العمال تمامًا لوسائل الانتاج- وهي مقدمة الاشتراكية وأساس المجتمع الشيوعي كامل التطور – لأنه عندئذ يمكن ان تصبح وسائل الانتاج ملكية اجتماعية للمجتمع بأسره. وهذا التطور سيحدث في المستقبل كتطور ضروري موضوعي، وكما قال ماركس في البيان الشيوعي تجربة بناء الشيوعية قد تفشل مرة او مرتين او اكثر ولكن ستنتصر في النهاية.
فخلال عملية تطوير الناس لقواهم الانتاجية ، يغيرون علاقاتهم الانتاجية، ومع هذه التغيرات تبرز طبقات جديدة الى المقدمة. والتغيرات في علاقات الانتاج تنتج من تطور قوى الانتاج، لأنها تتكيف مع قوى الانتاج الجديدة حتى يمكن ضمان استخدامها الكامل او الأكمل، وتحدث هذه التغيرات من خلال الصراع الطبعي وبواسطة طبقات محددة – هذا هو القانون الأساسي للتطور الاجتماعي الذي يجري الناس التطور التاريخي لأسلوب انتاج بعد الآخر وفقا له.
وتطور قوى الانتاج – الذي يشمل تطور خبرة الناس أنفسهم ومهارتهم ومعرفتهم وقدراتهم – هو السبب الجذري للتطور الاجتماعي بأسره.
وهذا التطور ينشأ من تطلع الناس الدائم الى السيطرة على الطبيعة.
** الانسان يواجه الطبيعة كواحدة من قواها
يقول ماركس في "رأس المال": "إن الانسان يواجه الطبيعة كواحدة من قواها، وهو يحرك ذراعيه وقدميه ورأسه ويديه – القوى الطبيعية لجسده لكي يتملك منتجات الطبيعة في هيئة تتوافق مع حاجاته.
وهو بفعله هذا على العالم الخارجي وتغييره له يغير في الوقت نفسه طبيعته هو، إنه يطور قواه الهاجعة ويجبرها على ان تعمل طوع ارادته".
(ك. ماركس رأس المال المجلد الأول – الفصل السابع – القسم الأول).
ويتمكن الناس في سعيهم لإشباع حاجياتهم من تحسين تقنيتهم وأدواتهم ومهاراتهم وبعبارة اخرى قواهم الانتاجية ، ولا يبدأ الناس في الاحساس بضرورة تغيير علاقات الانتاج الا حينما تواجههم قوى الانتاج الجديدة بإمكانيات جديدة وبذلك تثير فيهم الشعور بحاجات جديدة.
ويتسم المجتمع الرأسمالي بالتطور السريع للغاية لقوى الانتاج. ولقد بدأ هذا التطور داخل النظام الاقطاعي، ولم تحل علاقات الانتاج الرأسمالية محل العلاقات الاقطاعية الا فيما بعد، ووفرت سلسلة بأكملها من الاختراعات أثناء العصور الوسطى الظروف اللازمة لتطور الرأسمالية، يقول ماركس في كتابة "بؤس الفلسفة":
"ترتبط العلاقات الاجتماعية ارتباطًا وثيقًا بالقوى الانتاجية، فالناس باكتسابهم قوى انتاجية جديدة يغيرون أسلوب انتاجهم.. إن الطاحونة اليدوية تعطيك مجتمعًا فيه إقطاعي والطاحونة البخارية تعطيك مجتمعًا فيه رأسمالي صناعي".
من الضروري لكي نفهم أسباب هذا التطور للقوى الانتاجية ولعلاقات الانتاج التي تتجاوب معها ان تقرر ان الناس في الماضي لم يتوصلوا الى استخدام قوى انتاجية جديدة او يقيموا علاقات انتاج جديدة نتيجة لخطة او قصد ما. فهذا التطور تلقائي وغير مخطط .
لقد كان الناس في تطويرهم لأدوات وتقنيات جديدة يسعون دائمًا الى ميزة عاجلة، لكنهم كانوا أبعد ما يكون عن تخطيط او إستهداف النتائج الاجتماعية الثورية، التي نتجت في الواقع من مثل هذا التطور. وتطور هذه القوى الانتاجية أدى الى إقرار علاقات انتاج جديدة بشكل تلقائي بحكم الضرورة الاقتصادية. وهذا ما عبر عنه ماركس بقوله: " إن تطور علاقات الانتاج حدثا مستقلا عن ارادة الناس".
يقول ماركس في مقدمة: نقد الاقتصاد السياسي": "يدخل الناس في الانتاج الاجتماعي الذي يقومون به في علاقات محددة لا غنى عنها، ومستقلة عن ارادتهم. وتتوافق هذه العلاقات مع مرحلة محددة من مراحل تطور قوى انتاجهم المادية".
وعلاقات الانتاج التي يدخل فيها الناس في مجرى انتاجهم الاجتماعي "لا غنى عنها" – لأنهم لا يستطيعون أن يقوموا بالانتاج دون ان يدخلوا في علاقات انتاج محددة، وهي ايضا "مستقلة عن ارادتهم" – لأنهم لا يقررون مقدمًا اقامة علاقات انتاج محددة معينة بل يدخلون في مثل هذه العلاقات بشكل مستقل عن أي خطة كهذه.
ومن هنا يأتي أولا تطور قوى الانتاج ثم يحدث التغير في علاقات الانتاج ، نتيجة أوجه النشاط الاقتصادي – الاجتماعي التي يؤديها الناس بحكم ضرورة الحياة – تلقائيا ودون قرار مدروس او خطة ، وبشكل مستقل عن ارادتهم.
وتلك سمة التطور الاجتماعي حتى الثورة الاشتراكية.
تتوقف التغيرات في علاقات الانتاج على تطور قوى الانتاج. هذا هو قانون التطور الاجتماعي، لان كل انتاج اجتماعي يتطلب ان تكون العلاقات التي يرتبط بها الناس في القيام بالإنتاج ملائمة لطراز الانتاج الذي يقومون به. ومن هنا فان ضرورة تكيف علاقات الانتاج مع طبيعة قوى الانتاج قانون عام للتطور الاقتصادي الاجتماعي.
وتطور القوى الانتاجية قانون للتاريخ الانساني يؤكد ذاته رغم كل توقف ونكسة. وكل ما يعارض هذا التطور الذي لا يقاوم، محكوم عليه بأن يكتسح عاجلا ام آجلا. وهكذا فحين تبدأ علاقات الانتاج تعوق تقدم وتطور القوى الانتاجية الجديدة، فإننا نقترب من الوقت الذي سينهار فيه النظام الاجتماعي الذي يقوم عليه. وما حدث حتى ظهور التكوين الاقتصادي الرأسمالي هو أنه حيثما طور الناس قوى انتاجية جديدة فانهم قد بدأوا في فعلهم هذا، الدخول في علاقات انتاج جديدة، ثم حلت علاقات الانتاج الجديدة هذه محل العلاقات السابقة عليها، وتدعمت في تكوين اقتصادي اجتماعي جديد.
ومن هذا المنطلق عندما أصبح الاقطاع عائقًا أمام تطور القوى الانتاجية أخلى الاقطاع مكانة للرأسمالية ولعلاقات الانتاج الرأسمالية.
وأدت علاقات الانتاج الرأسمالية الى تطور القوى الانتاجية على نطاق وسرعة لم يعرفا من قبل، وذلك لأن البحث العلمي أصبح الآن قوة انتاج ضخمة، ولأن السعي الى الربح وتراكم رأس المال قادا الملاك الرأسماليين باستمرار الى تطوير تقنيات جديدة. لكن الرأسمالية تعوق الآن الاستخدام الأكمل والأفضل لقوى الانتاج وتطويرها.
والسمة الأساسية لزيادة قوى الانتاج التي نشأت في إطار الرأسمالية هي تشريك العمل، فلقد حلت محل الانتاج الفردي الصغير قوة العمل الاجتماعي الذي يتعاون الناس فيه معا في منشآت انتاجية كبيرة تستخدم الآن تعمل بالطاقة. لكن هذه السمة تعوقها علاقات الانتاج الرأسمالية التي تجعل الناتج ملكًا للرأسماليين وتجبر الانتاج الاجتماعي على ان يخدم الربح الخاص.
وبعد نشوء الاحتكارات العابرة للقارات او الرأسمالية الحكومية الاحتكارية تظهر في اقتصاد البلدان الرأسمالية الرائدة تناقضات جدية، وهذه التناقضات لا يمكن حلها في ظل وجود المشروع الرأسمالي والمزاحمة الرأسمالية. وتطور القوى المنتجة المعاصرة يؤدي الى مواصلة تعمق تقسيم العمل على الصعيد العالمي والى المزيد من اصطباغ الانتاج والرأسمال بالصبغة العالمية. وهذا هو مبعث ظهور مختلف التكتلات السياسية والاقتصادية للدول الامبريالية، وتطور الأشكال العالمية للرأسمال الحكومي – الاحتكاري.
وتلاحم الاوليجاركية المالية مع الدولة يجري بسبل مختلفة. وممثلي كبريات الكتل الاحتكارية يشغلون مناصب رفيعة في جهاز الدولة، ويغدون بالتالي ابواق السياسة التي تخدم وتطيب للاحتكارات.
وفي نظام التفاعل والتعاون بين الاحتكارات والدولة، وفي نظام رسم سياسة الدولة، بما في ذلك في الميدان الاقتصادي تضطلع بدور مهم اتحادات أرباب العمل التي هي على العموم، المعبرة عن مصالح التكتلات الأساسية للبرجوازية الاحتكارية والكومبرادورية.
وهذا التناقض بين الانتاج الاجتماعي مع التملك الرأسمالي الخاص، لا بد له ان يحطم قيد علاقات الانتاج الرأسمالية.
وحين تسود في المستقبل الملكية والتملك الاجتماعي ليتوافقا مع الانتاج الاجتماعي فان كل العقبات تنزع من أمام التقدم التقني كما تطلق القوى الانتاجية العظمى للعمل الاجتماعي – اذ يصبح الناس سادة أنفسهم ويعملون لأنفسهم.
//مراجع:
1. ماركس رأس المال، المجلد الأول.
2. ملامح المستقبل – بغاتوريا، دار التقدم - موسكو.
3. معجم الشيوعية العلمية.
4. موريس كورنفورت – مدخل الى المادية الجدلية.