المادية التاريخية ورؤية المستقبل (4):
انجلز: "الاقتصاد لا يخلق شيئا جديدا كلية، لكنه يحدد الطريقة التي تتغير بها مادة الفكر القائمة وتزداد تطورا"
العناصر الاخرى
حذر انجلز صراحة من سوء الفهم الناشئ عن الطريقة التي عرض بها هو وماركس النظرية احيانا، قال انجلز في رسالة إلى ج. بلوخ: "انني وماركس نتحمل جزءا من اللوم على حقيقة ان الكتّاب الشبان احيانا يركزون على الجانب الاقتصادي اكثر مما يستحق. فلقد كان علينا ان نؤكد هذا الجانب الرئيسي في معارضة خصومنا الذين كانوا ينكرونه ولم يتح لنا دائما الوقت او المكان او الفرصة لكي نولي العناصر الاخرى المشتركة في التفاعل ما تستحقه"
ان ابراز ماركس وانجلز للعلاقات الاقتصادية، العلاقات الانتاجية، بوصفها العلاقات الرئيسية والحاسمة من بين العلاقات الاجتماعية العديدة قد مكنهما من صياغة مفهوم التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وهو من اهم المفاهيم الاساسية للمادية التاريخية.
ان التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هي مجموع الظواهر والعمليات الاجتماعية (الاقتصادية والايديولوجية والعائلية والمعيشية والخ) القائمة على اسلوب معين تاريخيا لانتاج الخيرات المادية. ان تطور المجتمع هو عبارة عن الحلول الحتمى لتشكيلة اجتماعية اقتصادية اكثر تطورا محل أخرى قديمة وتتجسد الحركة التقدمية للتاريخ البشري في الانتقال من التشكيلة المشاعية البدائية إلى التشكيلة العبودية ثم الاقطاعية، ثم الرأسمالية واخيرا إلى التشكيلة الشيوعية. وبوضع المادية التاريخية برهن ماركس وانجلز ان الجماهير الشعبية الشغيلة هم الصناع الحقيقيون للتاريخ.
ينتج الشعب بعمله كل القيم المادية الضرورية للناس ويشكل عمل الملايين من بسطاء الناس الاساس الضروري لحياة المجتمع وتطور البشرية، ومن اعظم افضال ماركس وانجلز كذلك انهما كثفا الجدلية الموضوعية للتطور الاجتماعي وبنتيجة ذلك لم يعد التاريخ تجميعا فوضويا لوقائع غير مترابطة بل اتخذ شكل عملية قويمة متكاملة تجري بموجب القوانين الجدلية، ان موضوع المادية التاريخية هو دراسة المجتمع وقوانين تطوره، وهذه القوانين موضوعية أي مستقلة عن وعي الانسان تماما كقوانين تطور الطبيعة ومثلها مثل قوانين الطبيعة يمكن معرفتها ويستخدمها الانسان في نشاطه العملي، والى جانب هذه السمات المشتركة توجد هناك فروق جوهرية بين قوانين الحياة الاجتماعية وقوانين الطبيعة وتعكس قوانين الطبيعة فعل قوى عفوية عمياء، بينما تظهر قوانين التطور الاجتماعي دائما من خلال افعال الناس ككائنات واعية تضع لنفسها اهدافا معينة وتعمل على تحقيقها.
لا تدرس قوانين الحياة الاجتماعية من جانب المادية التاريخية وحدها بل كذلك من جانب العلوم الاجتماعية الاخرى – الاقتصاد السياسي، التاريخ، علم الجمال، علم التربية وهلمجرا.. لكن جميع هذه العلوم تدرس مجموعة معينة فقط من الظواهر الاجتماعية وتتناول المجتمع من احد جوانبه فقط دون ان تعطي فكرة عن عملية التطور الاجتماعي ككل على سبيل المثال يدرس الاقتصاد السياسي العلاقات الاقتصادية او الانتاجية بين الناس ويهتم التاريخ بتطور المجتمع في مختلف العصور ومختلف البلدان ويقتصر علم الجمال على مجال الفنون وهكذا. وخلافا لعلوم المجتمع المحددة تدرس المادية التاريخية اهم قوانين التطور الاجتماعي لهذا تقدم المادية التاريخية تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية، وهي تعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي واهمية الانتاج المادي في حياة الناس واصل ودور الافكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها، كما تساعدنا المادية التاريخية في فهم دور الشعوب والافراد في التاريخ وكيف نشأت الطبقات وكيف ظهر كل من الصراع الطبقي والدولة ولماذا تحدث الثورات الاجتماعية وما هي اهميتها بالنسبة للعملية التاريخية وعدد آخر من المسائل العامة لتطور المجتمع. والذي يجعل العملية الاقتصادية اساسية في التطور الاجتماعي هو ان اتجاه العملية الاقتصادية يمكن تفسيره بعبارات القوانين الاقتصادية. وما ان ندرك هذه القوانين حتى يصبح التطور الاجتماعي بأسره كل التفاعل المعقد الهائل قابلا للتفسير – على الاقل في خطوطه العامة اما الافكار والمؤسسات تتطور على اساس الاقتصاد وليس لها تطور مستقل وكما اعلن ماركس وانجلز في "الايديولوجية الالمانية" انها.. "ليس لها تاريخ، ليس لها تطور، لكن الناس اذ يطورون انتاجهم المادي وعلاقاتهم المادية يغيرون معها وجودهم الواقعي وتفكيرهم ومنتجات تفكيرهم".
وهكذا فطالما اعتبرت الافكار العامل المحدد في تطور المجتمع فان من المستحيل التوصل إلى أي تفسير علمي للتطور الاجتماعي أي تفسيره على ضوء قوانين التطور لأنه اذا درست الافكار والدوافع المتغيرة التي تعمل في الحياة الاجتماعية بذاتها كمجال مستقل فان من المستحيل ان نكتشف أي قوانين كلية تنظمها. ولن نكتشف القانون الكلي للتطور الاجتماعي الا حينما نستدير إلى الاساس الاقتصادي – وهذا القانون هو ان الناس يدخلون في علاقات انتاج تتوافق مع قوى انتاجهم وعندئذ فان التطور الذي يبدو عارضا للايديولوجية والدين والسياسة وما اليها يندرج في اطار ويجد تفسيره. قال لينين في "من هم اصدقاء للشعب" ان ماركس: "كان اول من وضع علم الاجتماع على اساس علمي بإرسائه لمفهوم التكوين الاقتصادي للمجتمع كمجموع لعلاقات الانتاج وبإرسائه حقيقة ان تطور مثل هذه التكوينات عملية من عمليات التاريخ الطبيعي". ومضى لينين يوضح ان ماركس في كتابه رأس المال لم يحلل باستفاضة فحسب التركيب الاقتصادي الرأسمالي وقوانين تطوره بل اوضح كيف تنشأ في توافق مع تطوره انماط محددة للوعي.
فبعد ان توصل ماركس في اربعينيات القرن التاسع عشر إلى مفهوم المادية التاريخية العام مضى يطبقه ويطوره ويتحقق منه.
"لقد اخذ احد التكوينات الاقتصادية للمجتمع – نظام الانتاج السلعي – وقدم على اساس كمية هائلة من المعلومات تحليلا شديد التفصيل للقوانين التي تحكم عمل هذا التكوين وتطوره" "ويقتصر هذا التحليل تماما على علاقات الانتاج بين افراد المجتمع، فدون ان يلجأ ماركس اطلاقا إلى عوامل أخرى غير علاقات الانتاج في شرح الموضوع مكننا من ان ندرك كيف تطور التنظيم السلعي للمجتمع وكيف تحول إلى الاقتصاد الرأسمالي" (ف. أ. لينين من هم "اصدقاء الشعب") هذا هو هيكل رأس المال، لكن القضية كلها هي ان ماركس لم يكتف بهذا الهيكل.. انه وهو يشرح تركيب وتطور تكوين معين للمجتمع بعبارات من علاقات الانتاج وحدها فقد ذهب على الرغم من ذلك دائما وفي كل مكان إلى تتبع التركيب العلوي للمجتمع الذي يتوافق مع علاقات الانتاج هذه وكسا هذا الهيكل باللحم والدم".
"ان رأس المال.. قد عرض للقارئ التكوين الاجتماعي الرأسمالي بأسره كشيء حي – بزوايا حياته اليومية بالمظاهر الاجتماعية الفعلية للتناقضات بين الطبقات الكامنة في علاقات الانتاج، بالتركيب العلوي السياسي البرجوازي الذي يبقي على سيطرة الطبقة الرأسمالية بالأفكار البرجوازية عن الحرية والمساواة وما اليها وبعلاقات الاسرة البرجوازية" (ف.أ. لينين "من هم اصدقاء الشعب") لقد اوضح "رأس المال" بالدراسة العلمية الدقيقة لتكوين اقتصادي بعينه كيف تتطور علاقات الانتاج وكيف يتطور تركيب علوي بأسره من الافكار والمؤسسات على اساس علاقات الانتاج، ومن هنا استخلص لينين انه: "منذ ظهور "رأس المال" لم يعد المفهوم المادي للتاريخ مجرد فرض وانما قضية اوضحت علميا" (ف.أ. لينين "من هم اصدقاء الشعب").
من هنا نستطيع ان نقول بان المادية التاريخية تزودنا بمنهج للتفسير التاريخي وتتضح صحتها بتطبيق هذا المنهج على الحالات المحددة، وتبين انها قادرة حقا على تفسيرها. لقد صور بعض مبتذلي الماركسية الامور – وبعضهم يسمي نفسه "ماركسيا" والآخرون يقدمون صورة حمقاء زائفة للماركسية لكي يدحضوها – وكأن الماركسية تقول ان كل فكرة ومؤسسة في المجتمع تنتج مباشرة عن احتياج اقتصادي مباشر وتخدمه، ويذكر انجلز في رسالة إلى س. شميدت ان ماركس في حديثه عن مثل هؤلاء المبتذلين كان يقول: "كل ما اعرفه هو انني لست ماركسيا" (ف انجلز رسالة إلى س. شميدت في 5 اغسطس/آب 1890) وفي نفس الرسالة يؤكد انجلز: "ان مفهومنا عن التاريخ هو في المقام الاول مرشد للدراسة وليس رافعة للبناء.. فكل التاريخ ينبغي ان يدرس من جديد وظروف وجود مختلف تكوينات المجتمع ينبغي ان تبحث بالتفصيل قبل ان نحاول ان نستخلص منها الافكار السياسية وافكار القانون المدني والافكار الجمالية والفلسفية والدينية الخ.. التي تتوافق معها".
وأكد انجلز مرارا ضرورة الدراسة المحددة في كل حالة للطريقة التي تنشأ بها افكار ومؤسسات بعينها وتتشكل على اساس تتطور اقتصادي معين والتأثير الذي تمارسه بدورها على المزيد من تطور المجتمع". وحذر انجلز صراحة من سوء الفهم الناشئ عن الطريقة التي عرض بها هو وماركس النظرية احيانا، قال انجلز في رسالة إلى ج. بلوخ: "انني وماركس نتحمل جزءا من اللوم على حقيقة ان الكتّاب الشبان احيانا يركزون على الجانب الاقتصادي اكثر مما يستحق. فلقد كان علينا ان نؤكد هذا الجانب الرئيسي في معارضة خصومنا الذين كانوا ينكرونه ولم يتح لنا دائما الوقت او المكان او الفرصة لكي نولي العناصر الاخرى المشتركة في التفاعل ما تستحقه" (ف. انجلز رسالة إلى ج بلوخ في 21 ايلول عام 1890). واستطرد انجلز في نفس الرسالة قائلا: "وفقا للمفهوم المادي للتاريخ فان العنصر النهائي المحدد في التاريخ هو انتاج الحياة الواقعية وتجدد انتاجها ولم يؤكد ماركس وأنا اكثر من ذلك ابدا، ومن هنا فإذا لوى احد هذا القول ليعني به ان العنصر المحدد الوحيد فانه يحول هذه القضية إلى عبارة حمقاء مجردة فارغة لا معنى لها" (المصدر السابق).
كما قال انجلز في رسالة إلى هـ. ستاركينبورج: "ان التطورات السياسية والقانونية والفلسفية والدينية والادبية والفنية الخ.. تقوم على اساس التطور الاقتصادي لكن هذه جميعا تؤثر على بعضها البعض كما تؤثر على الاساس الاقتصادي، فليست المسألة هي ان الظرف الاقتصادي هو السبب وانه هو النشط وحده في حين ليس لأي شيء آخر سوى تأثير سلبي، بل ان هناك بالاحرى تفاعلا على اساس الضرورة الاقتصادية التي تؤكد ذاتها دائما في النهاية".
كما اكد انجلز انه وان كانت الافكار والمؤسسات عموما نتاجا للظروف الاقتصادية فان الشكل الدقيق الذي تتخذه في بلد بعينه في وقت بعينه لا يمكن تفسيره فقط من الظروف الاقتصادية لهذا البلد في ذلك الوقت بالعكس ففي حين يؤكد تأثير التطور الاقتصادي ذاته دائما فان الافكار والمؤسسات الجارية لا بد ان تتوقف دائما على الوان من العوامل في حياة البلاد تشمل طبيعة الشعب وتقاليده وشخصيات قادته وفي المقام الاول تاريخه الماضي.
ويقول انجلز: "ان الاقتصاد لا يخلق شيئا جديدا كلية لكنه يحدد الطريقة التي تتغير بها مادة الفكر القائمة وتزداد تطورا". (ف. انجلز رسالة إلى س. شميدث 27 اكتوبر 1890). من هنا نستطيع ان نقول بان عملية الانتاج الاجتماعي هي العملية الاولية لكل حياة اجتماعية وهي "اولية" بهذا المعنى بالتحديد: ان الحياة الاجتماعية تبدأ بها، وانها موجودة باستمرار طوال كل حياة اجتماعية وان أي نشاط اجتماعي آخر او علاقة اجتماعية أخرى لا يمكن ان تحدث ما لم تستند إلى هذا النشاط الاولي هذه العلاقة الاجتماعية الاولية، ومن هذا الطرح مضى ماركس لصياغة فرض عام يتألف من عدة قضايا مترابطة يمكن ان يقال انها تشكل معا قانونا عاما للتطور الاجتماعي والخطوط العريضة لهذا الطرح هي:
1. لكي يقوم الناس بالانتاج لا بد ان يدخلوا في علاقات انتاجية وتتصل هذه العلاقات بملكية وسائل الانتاج وبأسلوب توزيع المنتجات وهي تحدد في مجموعها التركيب الاقتصادي للمجتمع. (يتبع)