"حين ترسم الفلسفة لوحتها الرمادية فتضع لونًا رماديًا فوق لون رمادي، فإن ذلك يكون إيذانًا بأن صورة من صور الحياة قد شاخت (أو شكلاً من أشكال الحياة قد أصبح عتيقًا) لكن ما تضعه الفلسفة من لون رمادي فوق لون رمادي لا يمكن أن يجدد شباب الحياة، ولكنه يفهمها فحسب".
Hegel: The Philosophy of Right. هيغل (فلسفة الحق).
السياسة كانت موضع اهتمام هيجل، بل وشغله الشاغل، طوال حياته، فهو القائل: "إن قراءة الصحف هي لون من الوان صلاة الصبح".
وليس من قبيل الصدفة أن يكون أول وآخر اعماله المنشورة، والتي اهتم بدفعها الى النشر، عبارة عن كتابات سياسية، وليست أعمالا فلسفية خالصة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة.
جميع أفكار هيغل عن طبيعة المجتمع المدني وعن الحاجة والعمل وعن تقسيم العمل وثروة الطبقات، وعن الفقر والشرطة والضرائب إلخ...، قد تزعزعت في النهاية في شرحه على الترجمة الألمانية لكتاب ستيوارت عن الاقتصاد السياسي الذي كتبه فيما بين 16 و 19 أيار 1799 والذي بقي كما هو دون أن يمسه.
"لقد كان هذا الشرح يحتوي على عدد من اللمحات العظيمة في السياسة والتاريخ وعلى العديد من الملاحظات الدقيقة".
(جورج لوكاش- الذي يفسر هيجل تفسيرًا ماركسيًا في كتابه الشهير "هيجل الشاب" "The Yong Hegel").
انصب إعجاب هيجل بمكيافيللي على جانبين أساسيين:
الأول: اهتمام مكيافيللي بتوحيد إيطاليا الممزقة، وهو ما كان هيجل يهدف إلى الوصول إليه بالنسبة لألمانيا.
الثاني: فصل مكيافيللي بين الأخلاق والسياسة، وهو موضوع هام عند هيجل. فإذا كانت العواطف تصلح للعشاق ولا تنفع في حقل السياسة، فإن الأخلاق تصلح لسلوك الفرد، ولا دخل لها بسلوك الدولة.
وهذان الجانبان مرتبطان برباط وثيق، فعملية توحيد الدويلات المنقسمة الممزقة التي كان يصبو اليها كل منهما، على الأقل في فترة من فترات حياتهما، تطرح سؤالاً "هامًا" هو كيف يمكن ان تتم هذه الوحدة؟ ما هي الوسائل التي يمكن ان تستخدم في لـَمِّ شمل هذا الشتات المبعثر سواء في إيطاليا أو في ألمانيا؟ يجيب هيجل إجابة أقرب الى المكيافيللية وهو يستبق ما سوف يقوله بسمارك فيما بعد.
"في هذا السياق ليس امامنا خيار في اختيار الوسائل، لأن الأعضاء المصابة بالغنغرينا- Gangrenuns Limbs- لا يمكن أن تعالج بالماء العطر، بل إنّ السم والبتر هما الأسلحة المألوفة والمطلوبة كعلاج لهذا الموقف، بغير أي ضرب من الرقة أو النعومة، ذلك لأن الحياة عندما تقف على حافة الهاوية والانهيار، فإن إعادة تنظيمها لا يمكن ان يتم في هذه الحالة إلا بأقصى درجات العنف والقوة... Hegel : German Constitusion"- هيغل: الدستور الألماني".
"إن بومة منيرفا لا تبدأ في الطيران إلا بعد ان يرخي الليل سدوله".
هيغل "فلسفة الحق"
أما البومة فهي طائر معروف يتخذ منه الشرق رمزًا للخراب والدمار، وبالتالي للنحس والتشاؤم، وذلك بسبب ميله الى العزلة والبعد عن دنيا الناس للحياة في أماكن خربة، في حين يتخذ منه الغرب، لنفس الأسباب رمزًا للحكمة لأن البعد عن الحياة والنفور من الضجيج، والميل الى التفكير الهادئ هو من شيمة الحكماء وحدهم.
وأما منيرفا Minerva فهي إلهة الحكمة عند الرومان (وهي نفسها الإلهة أثينا ATHENA إلهة الحكمة والفنون عند الإغريق).
أما عبادة "بومة منيرفا" فهي اصطلاح خاص عند هيجل يرمز به، الى الفلسفة بصفة عامة.
يصف هيجل الفلسفة، في بعض الأحيان بأنها "فكر ثانٍ" او انها "فكر لاحق" فما الذي يقصده بهذا الوصف، يقصد بالطبع إن هناك فكرًا أول هو الذي ينشأ في حياة الناس اليومية في شتى المجالات ثم تأتي الفلسفة لتجعل من هذا الفكر أول موضوع للدوامة.
ومن هنا فإن علينا أن نلحظ أمرين هامين:
الأول: بأن الفلسفة تأتي متأخرة بعد ان تكون الحياة قد دبّت بين الناس بالفعل، وقامت ألوان مختلفة من النظم تتوجها الفلسفة في النهاية.
الثاني: أن الفلسفة لا تتعامل قط مع الأشياء المباشرة، فهي لا تدرس هذه الشجرة او هذه المنفضة إلخ...، أو هذا النظام أو ذاك من نظم المجتمع (فهذا ما يفعله علم الاجتماع)، لا تدرس وقائع خطية ولكنها تدرس الفكر فحسب، واعني لا بد ان تتحول الشجرة والمنضدة والمنزل إلخ... إلى تصورات كلية حتى يكون موضوعا للفلسفة. وهذا هو معنى قول هيجل أحيانًا أن موضوع الفلسفة هو "الكلي" على اعتبار أن الفكر دائمًا كلي وقوله أحيانًا أخرى أن موضوع الفلسفة العقل لان جوهر العقل هو الفكر.
لا تتعامل الفلسفة أبدًا إلا مع الأفكار في أي فرع من فروعها المتعددة، ولما كانت هي نفسها فكرًا، فهي لهذا السبب توصف بأنها فكر ثانٍ، أو فكر لاحق او "فكر الفرك".
وهيجل يستخدم في هذا النص تلك العبادة الشعرية الشهيرة فيمثل الفلسفة بـ "بومة منيرفا"، التي لا تبدأ في الطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله! وكذلك الفلسفة لا تبدأ عملها إلا بعد ان يكون الواقع السياسي قد تم بناؤه.
وواقعنا المعاش اليوم مليء بالعناصر العقلية، واللاعقلية، وما في المجتمع من نظم وقوانين وعادات وأخلاق إلخ...، يتفق بعضه مع العقل، ويرفض العقل بعضه الآخر، فالظلم والعذاب والشقاء، والتسلط والحكم الدكتاتوري (لأنه ذاتي يعبر عن إرادة الحاكم الذاتية وحدها وكبت الحريات (لاحظ أن الحرية هي جوهر العقل عند هيجل)، وإلغاء ما يسميه هيجل بالشخصية الحرة اللامتناهية إلخ... كل ذلك عناصر لا عقلية موجودة في عالم الواقع، ومهمة الفلسفة السياسية إبراز هذه العناصر وتنفيذها... هذه هي الفلسفة السياسية عند هيجل.