أصحاب الفكر اليساري الجدلي الماركسي ومن منطلق الفهم المادي للتاريخ، وجب عليهم ان لا يغفلوا الخصائص القومية المميزة لهذا الشعب او ذاك، ولكن في نفس الوقت وجب عليهم ان يتحركوا فوق أي تقوقع عائلي او طائفي او قومي، من خلال فكر عقلاني انساني كوزموبوليتي (عالمي) يحمل روح العالمية والانتماء للانسانية ككل ويعتز بخصوصيته. لذلك علينا ان نرى الماضي والاصل والتراث من منطلق جدلي متحرر يرى الواقع المعاش بموضوعية وينظر للمستقبل بدون ردود فعل يائسة غير عقلانية، تتحول الى حقد، وعودة الى الوراء وبدون أي مقدرة او رغبة او ممارسة واعية من اجل تغيير الواقع، وبدون وضع رؤيا عقلانية جدلية لحاضر افضل ومستقبل ارقى.
كماركسيين، ومن منظار المادية التاريخية نتعامل مع فكرة القومية والامة كواقع موضوعي قائم، وسيعمر طويلا ولكن ليس انعكاسا او عودة فكرية الى الوراء، لانه عندما نعيش وندرك انتماءنا الطبقي، والقومي والانساني، كخيارات منسجمة، بمعنى ان نعيش بوضوح، هذه الانتماءات، مدركين الاسباب التاريخية والسياسية والثقافية والايديولوجية لهذه الانتماءات، عند ذلك فقط نستطيع ان نبني الجسور مع الآخر، ونعمل على تطوير الذات من خلال تفاعل جدلي مع الواقع المعاش ومع الآخر.
ولكي نصنع واقعنا اجمل وارقى واسمى علينا ان نبذل اقصى ما في ذواتنا وان نتحمل العبء والمسؤولية تجاه الذات وتجاه الآخر، ونتعلم اهمية الالتزام بالقيم الانسانية العامة، وبالمبادئ والقناعات التقدمية العلمانية الثورية، ونعي اهمية العلم والثقافة، من اجل بناء مجتمع قادر على المساءلة والمحاسبة على مستوى الذات وعلى مستوى السلطة وكل مؤسسات المجتمع المدني.
وعندها فقط يستطيع كل فرد في هكذا مجتمع ان ينسجم مع ذاته ومع الآخر، وان يعتز بانتمائه الى هذا المجتمع او ذاك.
وعندها ايضا بوعي جماعي تقدمي ثوري، وبمشاركة جماهيرية شعبية طبقية نستطيع مكافحة مفاهيم السوق الحرة وأخلاقيات الركض وراء الربح، ونشر مفاهيم الاستهلاك كقيم عليا ومكافحة الفراغ والخواء الثقافي والاخلاقي الذي تعاني منه مجتمعاتنا. وفقط عندها يستطيع كل انسان ان يجمع بين اعتزازه القومي واخلاصه لوطنه وبين الشعور بالمسؤولية تجاه الانسانية جمعاء، والا سنبقى اقواما ممزقة تسيطر عليها الافكار الرجعية وتعاني من الاستبداد السلطوي السياسي والديني والقبلي ومن الممارسات الذاتية الطبقية النرجسية المريضة، ومن مرض "انفصام الشخصية" الاجتماعي والذاتي ومن التناقض بين ما يقال وما يفعل ومن التناقض بين الشعار والممارسة خصوصا لدى شعوب مثل الشعوب العربية التي عانت على مدى مئات السنين من استعمار وإذلال لا بل تهميش للهوية القومية، وتشويه لانسانية الانسان.
ولكي لا نغرق في الركود والاحباط واليأس والافكار الرجعية السلفية علينا ان نسعى من اجل احداث قفزة اقتصادية وسياسية وحضارية من اجل الحفاظ على خصوصية الهوية المتفاعلة والمتقبلة للآخر بشكل جدلي، رافضين عملية التهميش الحضاري، من خلال الامركة عالميا او الصهينة محليا.
ولا شك بان التجديد الاقتصادي والتطور التكنولوجي والعلمي وتطور وسائل الانتاج سيخلق ارضية مادية واجواء من اجل الارتقاء السياسي والاخلاقي والثقافي والروحي ، كمركبات البناء الفوقي للمجتمع.
فمن خلال فكر مادي جدلي عقلاني نستطيع ان نحقق الانسجام الذاتي ليس فقط كأفراد بل كمجتمع.
فالخصوصية حق ولكن يجب ان تكون منبثقة وبعلاقة جدلية مع الجماعية. وهنا اقتبس ما قاله وكتبه مونتيسكيو: "اذا عرفت ان ثمة شيئا سوف تكون فيه فائدة لي ولكنه ضار لعائلتي، فانني سوف اطرده من عقلي. واذا عرفت انه سوف يكون فيه فائدة لعائلتي لكنه ضار لوطني فانني سأعتبره جريمة، واذا عرفت انه سوف ينفع اوروبا لكنه سوف يؤذي البشرية فلسوف اعتبره جريمة ايضا".
وانطلاقا من هذه المقولة، فكل انسان لا يمكن ان يحصل على تطوره بانسجام مع نفسه ومع الآخر الا من خلال رؤيا عقلانية متحررة جدلية تقدمية، تعمل على تطوير الذات والخاص ومتفاعلة مع الانتماء الانساني الكوزموبوليتي (العالمي) الانساني العام.
ألانسجام المتطور مع الذات ومع الآخر
24 أيلول/سبتمبر 2014, 12:00 am كتبه د. خليل اندراوس
نشر في
مقالات
موسومة تحت
